بعد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية سعت دول العالم لإنشاء منظمات دولية تهدف إلي تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي وإرساء قواعد السلام العالمي تجنباً لتكرار الآثار السلبية الناتجة عن الحربين العالميتين الأولي والثانية حيث تشير الآراء إلي أن أساس هذه الحروب يرجع إلي الصراع علي أسواق التجارة العالمية.
حيث تم تأسيس منظمــــة الأمم المتحدة ومنظمة ( بريتون وودز) كمـــــا بدأ التفكير جديـــــاً بانتهــــــاج مبدأ ( تحرير التجارة ) والتخلص تدريجياً من السياسات الحمائية . وأعربت الدول المتقدمة عن قناعتها بأن الوضع الاقتصادي العالمي ليس مهيئاً بعد لتأسيس منظمة التجارة العالمية فتم الاستعاضة عنها بإنشاء الاتفاقية العامــة للتعريفات والتجارة ( GATT ) عام 1947 .
ولكي تستفيد الدول المنضمة إلي الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة ( GATT ) من تحرير تجارتها الخارجية وتجارة شركاءها ، بدأت هذه الدول بتنفيذ برامج إصلاحية علي المستويين الوطني والإقليمي في مجالات متعددة منها الممارسات والسياسات والتشريعات التجارية والنقل والجمارك ونقاط العبور الحدودية لتحقيق أقصي استفادة ممكنة من تحرير التجارة فيما بينها . وفي الوقت الذي نجحت فيه الدول المتقدمة في تحسين وتطوير البني التحتية لتجارتها الخارجية من تشريعات وإجراءات وسياسات ووسائط نقل وطرق برية وبحرية وجوية اختصرت فيها الكثير من الوقت والكلفة اللازمة لإنجاز المعاملات التجارية ، ظلت الدول النامية تعاني من تخلف في المجالات وبطئ في الإصلاحات مما تسبب في الكثير من الخسائر لها علي مستوي مساهمة تجارتها في مجموع التجارة العالمية . إلا أنه بعد انتهاء الجولة الثامنة والأخيرة من جولات المفاوضات حول اتفاقية الجات والتي يطلق عليها جولة أورجواي عام 1994 والتي تم فيها وضع أساس لتحرير التجارة العالمية المتعدد الأطراف ، وانضمام الدول النامية تباعاً إلي منظمة التجارة العالمية بعد إنشائها عام 1995، أصبح من الأولويات لكل الدول علي مستوي العالم الاتجاه إلي تطوير قطاع التجارة الخارجية والحصول علي فرص تسويقية جديدة.
ولكن تحقيق مكاسب في مجال التجارة الدولية لا يتطلب فقط تطبيق مبادئ حرية التجارة ولكن أيضاً تحسين جوهري في كفاءة إنجاز المعاملات التجارية لذلك برز ضمن اهتمامات منظمة التجارة العالميـة مفهوم أطلق علية اسم " تسهيل التجارة " ( Trade Facilitation ) أثناء الاجتماع الوزاري الأول للمنظمــة الذي عقد في سنغافورة في عـــام 1996، ثم أعيد التأكيد علية بشكل واضح أثناء المؤتمر الوزاري الرابع للمنظمة الذي عقد في الدوحة في قطر عام 2001 ، حيث تضمن البيان الوزاري الصادر عن المؤتمر الطلب المباشر من مجلس التجارة في السلع مراجعة المواد ( الخامسة والثامنة والعاشرة ) من اتفاقية الجات 1994 وهي المواد ذات الصلة بموضوع تسهيل التجارة .
ويرجع الغـرض من توضيح وتحسين هذه المواد إلي أسبــــاب تختلف باختلاف المادة محل التوضيح والتحسين ، فنص " المادة الخامسة " من اتفاقية جــــات 1994 يتعلق بموضوع حرية المـرور بالعبور " ترانزيت " ( Transit ) والتي تعد من أقدم الجوانب المرتبطة بتسهيل التجارة بسبب أنها تمثل محدداً كبيراً للإمكانيات التجارية لكل من الدول غير الساحلية وغيرها من الدول بدرجات متفاوتة ، أما الغرض من النقاش والتفاوض حول هذه المادة فهو أن نص هذه المادة لم يحدد أي تفصيلات عن ما يجب أن يتبع في حالة التعرض لقيود أو تأخير لبضائع الدول في دول العبور ، كما أنها لم تحدد أي حدود للرسوم المفروضة من الدول نظير السماح بالمرور في أراضيها .
أما الغرض من النقاش والتفاوض حول نص " المادة الثامنة " والتي تعتبر العصب الرئيسي لعملية تسهيل التجارة بسبب أنها المادة الوحيدة التي تناولت الإجراءات الجمركية والرسوم المفروضة وحثت علي تطويرها وتبسيطها هو أن هذه المادة لم تتناول الكيفية التي يجب أن تنتهجها الدول في سبيل تطوير وتبسيط معاملاتها الجمركية.
في حين أن الغرض من النقاش والتفاوض حول نص " المادة العاشرة " والتي تشير إلي نشر القوانين والتعليمات والقرارات القضائية والأحكام الإدارية ذات التطبيق العام بهدف عدم تطبيق أي إجراء يترتب عليه تغيير في الرسوم والضرائب الجمركية علي الواردات أو يفرض قيوداً علي هذه الواردات قبل نشرها رسمياً ، هو أنها لا تحوي أي تفاصيل تضمن الشفافية وتسهل علي الدول الأعضاء مراقبة التطبيق والمحاسبة ،أما الهدف العام من اتفاق الدول الأعضاء علي العمل علي توضيح وتحسين إطار هذه المواد الثلاثة ( في إطار المفاوضات الحالية ) فهو إيجاد الآليات الواضحة التي تساعد علي زيادة تسريع حركة السلع والتخليص عليها والإفراج عنها من الموانئ الجمركية وصولاً إلي المستهلك بالأسواق المحلية .
وفي نوفمبر 2004 تم عقد أول اجتماع للمجموعة التفاوضية لتسهيل التجارة حيث تقدمت العديد من الدول المتقدمة والنامية والتكتلات والمنظمات بأكثر من ( (70ورقة عمل حول النماذج التفاوضية الخاصة بتسهيل التجارة والاقتراحات حول كيفية تحسين وتوضيح المواد ذات الصلة ، وكذا استعراض لخبرات العديد من الدول الأعضاء وأفضل الممارسات و أنجحها في مجال تسهيل التجارة حيث كانت أهم الموضوعـــــات التي تم طرحها للتفاوض حول تسهيل التجارة هي توضيح وتحسين المـواد " الخامسة والثامنة والعاشرة " مـن اتفاقيـة جات 1994، بالإضافة إلي موضوعات أخري مثل الاهتمام بمبدأ المعاملة الخاصة والتفضيلية للدول النامية والأقل نمواً ، وتحديد احتياجات وأولويات الدول النامية والأقل نمواً الأعضاء ، والاعتراف بأهمية الأحكام الخاصة بالمساعدات الفنية وبناء القدرات، والتعاون المشترك مع المنظمات الدولية الأخرى العاملة في مجال تسهيل التجاري .
ووفقاً للخلاصة التي أعدتها الأمانة العامة لمنظمة التجارة العالمية والتي تضمنت تصنيف للمقترحات المقدمة من الدول الأعضاء وفقا لكل مادة من المواد الثلاثة التي أتفق علي توضيحها وتحسينها فإن مجالات المقترحات التي تم تقديمها من الدول الأعضاء وفقاً لكل مادة من المواد الثلاث من اتفاقية جات 1994 هي :
ا1- المقترحات الخاصة بتوضيح وتحسين المادة الخامسة من اتفاقية جات 1994 والمعنية بحرية المرور العابر هي تعزيز مبدأ عدم التمييز، وضع ضوابط علي الرسوم والأجور الخاصة بالنقل بالعبور ، وضع ضوابط علي معاملات النقل بالعبور ومتطلبات التوثيق ، تحسين التنسيق والتعاون بين الإدارات الحكومية وبين الإدارات الحكومية والقطاع الخاص ، توضيح المقصود بالمصطلحات الوارد ذكرها في نص المادة الخامسة وإرساء إطار تطبيقي لها
ا2- المقترحات الخاصة بتوضيح وتحسين المادة الثامنة من اتفاقية جات 1994 والمعنية بالرسوم والمعاملات المرتبطة بعمليات الاستيراد والتصدير هي الضوابط علي الإجراءات ومتطلبات التوثيق المرتبطـــة بعمليــات الاستيراد والتصدير ، منع متطلبات التصديق القنصلي ، تنسيق أنشطة ومتطلبات جميع الإدارات الحدودية ، تسريع وتبسيط إجراءات التخليص علي السلع والإفراج عنها ، تصنيف التعريفة الجمركية ، وضع ضوابط علي جميع الرسوم والأجور التي تفرضها الإدارات الجمركية أو أي إدارة حكومية أخري بخصوص عمليات الاستيراد والتصدير، ضمان أن الخدمات المقدمة تتعلق بالسلع قيد التخليص وأن الرسوم التي تفرض مقابلها تكون بحدود كلفتها التقريبية ، أن لا يتم احتساب تلك الرسوم علي أساس نسبة من قيمة السلع ،أن يتم نشر تلك الرسوم علي الإنترنت ، إخطار منظمة التجارة العالمية قبل تطبيق تلك الرسوم بحيث لا يجوز جباية أي رسوم أو أجور غير منشورة ، أن تقوم الدول الأعضاء بمراجعة دورية لدرجة ملائمة عدد وقيم الرسوم والأجور بشكل منتظم ، وضع التزام علي الدول بالقيام بمراجعة وتوحيد وتخفيض عدد وتنوع الرسوم والأجور المطبقة لديها ، الإعلان عن الرسوم والأجور وإعداد قائمة بالرسوم والأجور المسموح بها وإزالتها في حالة انتهاء الظروف التي أدت إلي فرضها .
ا3- المقترحات الخاصة بتوضيح وتحسين المـــادة العاشرة من اتفاقية جات 1994 والمتعلقة بنشر وإدارة التشريعات التجاريــــة هي نشر وتوفير المعلومات، إتاحة فترة زمنية بين نشر وتطبيق التشريعات ، المشاورات والتعليق علي القوانين المعدلة والمستحدثة ، الأحكام المسبقة ، الإجراءات الأخرى لتعزيز النزاهة وعدم التمييز. ومنذ بداية عام 2010 تم إصدار مستند مجمع لموضوعـــــات تسهيل التجــــــــارة أطلق عليه النص التفاوضي المجمع لمسودة اتفاقية تسهيل التجارة حيث تم إصدار المستند برقم برقــــــــم (TN/TF/W/165) بعد سلسلة من الاجتماعات التفاوضية حول المقترحات المقدمة من الدول الأعضاء بمنظمة التجارة العالمية ، حيث تم في النهاية تجميع وتصنيف هذه المقترحات في مستند يمثل نواه لإصدار اتفاقية ملزمة لتسهيل التجارة ، وقد تم طرح هذا المستند للتفاوض حول نصوص المواد الواردة به حيث تقوم سكرتارية منظمة التجارة العالمية بإصدار نسخة معدلة من المسودة في نهاية كل جولة تفاوضية تتضمن كافة النصوص التي تم تعديلها ومراجعتها خلال جولة المفاوضات .
وتتكون مسودة اتفاقية تسهيل التجارة من قسمين ، القسم الأول منها يشتمل علي المقترحات المقدمة من الدول المختلفة لتحسين المواد الخامسة والثامنة والعاشرة من الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة ( GATT ) والتي تضمن تحقيق كفاءة التجارة ، ونظراً لتنوع هذه المقترحات والتعديلات التي أجريت عليها فقد أخذت هذه المقترحات شكل الالتزامات مما دفع الدول النامية والأقل نمواً إلي التعبير عن مخاوفها من عدم تمكنها من تنفيذ هذه الالتزامات بسبب ضعف الإمكانيات الفنية والقدرات البشرية والبني التحتية في هذه الدول ، لذلك تم تخصيص القسم الثاني من مسودة اتفاقية تسهيل التجارة للمساعدات الفنية وبناء القدرات وأحكام المعاملة الخاصة والتفضيلية للبلدان النامية والأقل نمواً الأعضاء في منظمة التجارة العالمية
أما الموقف الحالي لمفاوضات تسهيل التجارة هو إصدار النسخة المراجعة الثانية عشرة من النص التفاوضي المجمع لمسودة اتفاقية تسهيل التجارة الصادرة برقم (TN/TF/W/165/Rev.12) وسوف تستمر المفاوضات لحين الوصول إلي نص نهائي لاتفاقية تسهيل التجارة يلقي القبول من جميع الدول الأعضاء بمنظمة التجارة العالمية .
التسميات
دراسات قانونية