مصر فوق الجميع - محمود أبو العلا



لا أعتقد أن في مصر من لم يسمع بهذا الشعار وهذه المقولة الشائعة والتي نستخدمها في كل مقال وكل خطبة وكل محاضرة .. الجميع يقولها ..مما جعلني أقف أمامها كثيرا وأتدبرها وأتحسسها في سلوك الناس .. كل الناس .. هل نحن فعلا نضع مصر فوق الجميع ؟ .. هل توافقت أفعالنا أو ردود أفعالنا مع هذه الكلمات... مصر فوق الجميع ؟
هل وضع رجال الشرطة هذا الشعار أمام أعينهم وهم يتركون الشارع للإنفلات الأمني المقيت بحثاً عن زيادة في ساعات الراحة أو البدلات أو المميزات ؟ وهل تساوي كنوز الأرض إغاثة فتاة تصرخ من الألم بعد أن تكالب عليها مغتصبوها في وضح النهار ؟ هل تبرئ ذمة كل رجال الشرطة من دم هذه الفتاة المغلوبة على أمرها ؟
هل وضع رجال الإسعاف هذا الشعار في إعتبارهم وهم ينظمون إضراباً عن العمل !! وما معنى إضراب رجال الإسعاف عن العمل .. الإمتناع عن إغاثة الملهوف .. ترك المصاب ينزف دماً حتى يموت !! هل تساوي كل الأموال والفوائد التي ينادون بها حياة رجل واحد مات وضاعت استغاثات أهله وذويه هباء في ظل إضراب يطالب بتحسين أحوال المعيشة ، حتى وإن كان هذا التحسين على حساب فقد شخص واحد لمعيشته وضياع حياته كلها...
هل كان الأطباء وهم يقفون وقفاتهم الاحتجاجية مطالبين بتحسين أوضاعهم والموافقة على كل طلباتهم يضعون مصر فوق الجميع ، هل كانت مصر فوقهم وهم يتظاهرون أمام مجلس الشعب ، و مجلس الوزراء ، وفي ميدان التحرير ؟؟
هل كانت مصر فوق الجميع والكتل والائتلافات والأحزاب والإخوان وغير الإخوان ينظمون تلك المليونيات الكثيرة .. مليونية الخراب ومليونية الدمار ومليونية البطالة وكل تلك المسميات الحقيقية للمليونيات التي تكالب عليها الناس ، غير عابئين بالأثر على البورصة وعلى السياحة وعلى البطالة وعلى الصناعة وعلى التجارة وعلى كل شرايين الحياة .. غير عابئين بأولئك الذين انقطعت أرزاقهم لأيام وشهور بسبب تلك التوقفات الفجائية للحياة والعمل بسبب مليونية كذا وكذا ..
أين كانت مصر حين قررنا بكل ترحاب تسهيل مأمورية الجاسوس ضابط الموساد الصهيوني "إيلان تشايم جرابيل"، المتهم بالتجسس ، وتركناه يتجول معنا وبيننا ، نستمع له ونصغي لأفكاره ودعواته . ونتبع أقواله وما يدسه من سم في جسد الأم المسكينة..مصر ..ونحن نبارك ونشهد على عملية القتل بأنفسنا .. وجرابيل هو مجرد شخص واحد فقط تم ضبطه ، ولكن يوجد غيره العشرات..
كم جرابيل في جهاز الشرطة يدس الفتنة ويحرك التيارات المعادية ويغذي الجموع بالغضب والرفض والتوقف عن العمل ؟؟
كم جرابيل في المساجد .. يدعو إلى الفتنة وكراهية المسيحيين وقتلهم ومنعهم من بناء كنائس جديدة لهم ، ومنعهم من تقلد المناصب العليا وأن تقف بهم الحياة عند مرحلة لا يتعدونها لأنهم مسيحييون!!!
كم جرابيل في الكنائس .. يبكي ومن حوله الكثير على الحقوق الضائعة .. وينادي برفض الصمت والخروج عن السكوت وقتل كل من يعارض في هذا أو ذاك.. ونشر الشائعات عن قتل النصارى وذبح النصارى وعذاب النصارى في بلاد النصارى ..
كم جرابيل في الدويقة .. تلاعب بعقول الغلابة .. حتى بلغ الأمر أن أقنعهم أن عقود الشقق التي منحها لهم النظام البائد هي عقود صورية.. ودعاهم إلى الإعتصام والتظاهر لكي ينالوا حقوقهم المسلوبة والضائعة وان ينتقموا من الظلمة !!!!
جواسيس كثيرون انتشروا في كل مكان في مصر وفي كل مجموعة وفي كل فئة .. ليس لهم سوى هدف واحد .. زيادة الفرقة ورفع معدلات البلطجة ..والايقاع بين الجيش والشعب .. وبين الشرطة والشعب .. وبين المسلم والمسيحي .. وبين الحكومة والفقراء .. وبين الثوار والفلول .. وبين الاهلي والزمالك ...وبين السلفيين والأخوان .. وبين الرجل والمرأة .. أين كان شعار مصر فوق الجميع؟؟؟ عندما حدثت مهزلة مسرح البالون ، تلك المهزلة التي تعتبر بحق كوميديا هزلية في تاريخ الثورات والمظاهرات .. حيث بدأت الاحداث على شائعة تقول أن الشرطة قامت بالاعتداء على أم شهيد من شهداء ''ثورة 25 يناير'' في يوم التكريم في ''مسرح البالون'' وسرعان ما تلاحقت الاحداث في ثواني معدودة .. مجموعة من الشباب تقوم بإقتحام ''مسرح البالون بالقوة وتحدث مشادات بينها وبين أفراد الأمن في المسرح ، ثم سرعان ما تتحول المشادات إلى مشاجرة دامية بالشوم والحجارة أدت الى وقوع مصابين ، في هذه الأثناء يقوم شخص مجهول بإبلاغ قسم العجوزة بأن هناك بلطجية يحاولون اقتحام ''مسرح البالون'' وعليه تأتي قوة من قسم العجوزة وهو الهدف الرئيسي للمدبرين .. نريد الشرطة أن تتورط في كل ما يجري على الساحة من اصابات وقتل وبالطبع تحولت هذه المشاجرات لتُصبح بين البلطجية والشرطة وتتعالى الصيحات عن شهداء ومصابين بسبب تدخل الشرطة وعليه تقوم مجموعة كبيرة من الشباب بالتظاهر والسير في إتجاه مبنى وزارة الداخلية ومحاولة اقتحامه أو حرقه .. أين كانت مصر في خلال كل هذه الأحداث ؟؟ فوق الجميع ؟؟؟ وأين كان هذا الشعار عندما حدثت فتنة استاد القاهرة يوم مبارة الزمالك والأفريقي التونسي التي شهدت غياب شبه كامل للأمن (و لماذا غاب الامن؟) رغم وجود نحو 40 ألف متفرج يحملون الشماريخ والألعاب النارية ويشعلون بها المدرجات .. ثم نجري جميعا خلف الرجل أبو جلابية نحاول أن نكشف الغموض عنه ونعرف من هو ولماذا فعل كل ما فعل .. دون أن نلقي اللوم على أنفسنا وعلى الالاف من الحاضرين الذين هرولوا خلف هذا ال( جرابيل ) الذي استطاع بمفرده أن يقود كل هذه الاعداد ليحطموا استاد القاهرة ويعلنوا امام كاميرات التلفزيون التي تنقل المباراة لكثير من دول العالم وعلى الهواء رسالة واضحة .. لا تأتوا الي مصر .. فهي بلد غير آمن .. يا سياح العالم .. اذهبوا الي اسرائيل فهي بلد الامن والامان الحقيقي.. مصر اصبحت فوضى .. وهذا هو الدليل على شاشات التلفزيون وعلى الهواء مباشرة امام كل من يتابع كرة القدم .. هل كانت مصر فوق الجميع في استاد القاهرة في هذه المهزلة ... أم كانت تحت أقدام كل من خرج عن النظام وهو لا يعرف لماذا يخرج عن النظام !!
أين كانت مصر في اعتصام العاملين في المراقبة الجوية لمصر للطيران مطالبين بتحسين أجورهم ... غير مهتمين ولا مبالين لتلك الخسائر التي تحملتها مصر بسبب ما قاموا به .. خسائر تقدر بأكثر من عشرين مليون دولار في ثلاثة ايام ، غير ان الكارثة ليست في هذا الرقم ، ولا في المبالغ التي قيل أن الحكومة وافقت على تخصيصها للاستجابة لمطالبهم المشروعة وفي تحسين اوضاعهم .. بل الخسائر امتدت لتشمل كم السياح الذين لم يحضروا وقاموا بتحويل وجهتهم إلى دول مجاورة وعلى رأسها اسرائيل بلد الامن والامان في المنطقة بعد ان ضاع الامن والامان في مصر بتصرفات ابنائها ..امتدت الخسائر لتشمل كم رجل اعمال كان مقررا له الحضور الى مصر ؟؟ ولكن المراقبين الجويين اضطروه إلى الغاء السفر لمصر.... و عليه لن يحضر هؤلاء الرجال الى مصر و لن يتم تنفيذ المشروعات اوالاستثمارات فيها ... فضاعت عشرات فرص العمل وملايين الدولارات من الاستثمار المتاح لمصر
..هل كانت مصر في عيون المعلمين أو قلوبهم وهم يفتتحون العام الدراسي الجديد بدون مدرسين .. ليقدموا الدرس الاول للتلاميذ في كيفية فرض الرأي بالقوة والبلطجة الفكرية والاعتصام و الاضراب والامتناع عن العمل كوسيلة لاجبار الـ ( آخر ) علي الرضوخ للمطالب والمزاعم.. أين كان شعار مصر فوق الجميع عندما أضرب المعلمون عن الذهاب إلى المدارس .. وحتى في الجمارك .. فئات متعددة من العاملين يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم يتم رد حقوقهم التي فقدوها بسبب جور الطغاة .. وما هي تلك الحقوق ؟؟ كثيرة .. ولكنها في مجملها لا ترقى أبداً لمستوى أن تتوقف الحياة من أجلها .. العاملون في المطار يهددون بالاضراب .. العاملون بالموانئ يهددون بالاعتصام .. حتى المتدربون في المعهد الجمركي يهددون بالاضراب إذا لم ترضخ الادارة لطلباتهم بتعديل مواعيد الامتحان .. كثرت الدعوات إلى الاعتصام لكي تتحقق المطالب وترضخ السلطات لهذه الطلبات !!!ٍ
إن هذه الكلمات ما هي إلا نبضات من الشعور خرجت لتعبر عن حالة عدم رضا عن ما يحدث في الشارع المصري من أعلاه إلى أدناه .. وهذه الحالة أظن أنه يشاركني فيها جميع المصريين الذين يأملون في مستقبل مشرق لمصر ..
قد لا أختلف مع الكثيرين ممن سيقول أن الجميع مقصرون .. والتقصير والعجزبدأ من تصرفات وقرارات الحكومة وامتد ليشمل في احيان كثيرة بعض الوزراء والقائمين على ادارة شئون البلاد .. تقصيرهم كان في قراراتهم العكسية او المتأخرة أو حتى في عدم اتخاذ قرار من الأصل ، قائمة المقصرين تشمل الكثيرين .. الحكومة والصحف والصحفيين والتليفزيون والإعلاميين والضيوف والمتحدثين والشيوخ والقساوسة ومشجعي الكرة .. بل أقول مصر بكل من فيها تسببت في جزء يختلف حجمه حسب كل طرف في فساد الوضع وانحراف مسار الثورة .. كلنا أصبحنا من مسببات الوضع الخطير الذي آلت إليه مصر والذي وصلنا اليه بسبب افعالنا وتكالبنا على مصالحنا كل حسب رؤيته .. ولكن عيناي وبصري وقلبي أنظر بهم إلى مصر وهي تبكي وتتألم من جراء ما نفعله بها .. لم أذهب في النظرة والتحليل إلى من المسئول .. وهل الشعب والفئات التي تخرج هي المسئولة ؟؟ أم ان الحكومة والقائمين والقادة والمسئولين هم المسئولون ؟؟ لم أفكر في من المسئول .. ومن الذي يلام .. ومن الذي بدأ بالخطأ .. رغم ان هذا التحليل ضروري وله وجاهته ومنطقه ومبرراته .. لم أذهب إلى المنطق الذي تتحدث به مجموعات المضربين والمتظاهرين والمعتصمين فكل منهم يطالب بحقه .. وهي كلها حقوق مشروعة .. ولكني هالني منظر أمي ( مصر ) وهي تبكي من شدة الألم والدماء تنزف من جبينها وقد تكالب عليها أولادها في قسوة مخجلة وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً ..أنا أنظر إلى المشهد من زاوية المستقبل .. وليس من زاوية من له الحق ومن عليه .. فقد آل حالنا إلى ما هو عليه بسبب تداعيات استمرت على مدى أكثر من ثلاثون عاماً من الكبت والذل والقهر من جانبهم .. والصمت والخوف والخنوع من جانبنا ....
ما أريد أن اصل إليه هو مستقبل مصر ..إلى أين يا مصر ؟؟ هل ستقودنا افعالنا هذه مسئولين وتابعين الي ما نريد .. ام على احد الطرفين أن يكون أكثر حكمة ؟؟ واذا كنا قد تعودنا على ان الطرف الحاكم لا يوجد لديه حافز او سبب قوي للاهتمام بالناس ومشاكلهم وحلها .. الا يستوجب هذا ان تسعى جموع الشعب وفئاته إلى اتباع تصرفات حكيمة من جانبهم لا تضر بلادهم أو تضرهم .. لقد علمنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ان الدنيا والاخرة لا يجتمعان في قلب مؤمن .. وبالقياس .. فإن المصلحة العامة والمصلحة الشخصية لا يجتمعان عند انسان واحد .. من تولى العمل العام أو قيادة الناس .. عليه ألا ينظر إلى مصالحه الخاصة ومستقبله الوظيفي ..فعليه مسئولية كبيرة امام الله لا ينقذه منها الا عدله وتقوى الله .. فهل نبدأ نحن دون أن ننتظر القيادات لتبدأ في مبادرة من أجل مصر .. مبادرة تقول .. سوف نضع جانباً المصالح الشخصية والمطالب الفئوية .. سوف نصبر فترة أخرى حتى يأتي نواب الشعب إلى مجلس الشعب الجديد والذي سنكون نحن المسئولون عما تفرزه أصواتنا في الانتخابات .. وننتظر حتى تأتي حكومة منتخبة لإدارة شئون البلاد .. وننتظر حتى يأتي رئيس منتخب نبذل كل الجهد في أن نختاره بدقة .. هذا الانتظار معناه ثمانية أشهر وفق ما هو معلن الآن من المجلس العسكري .. ثم نرى ما هم فاعلون .. هذه الشهور الثمانية سوف تعطي الفرصة الرائعة للبلاد ان تلتقط انفاسها وللاقتصاد ان يتعافى من وعكاته القاتلة وللشعب ان يفهم في هدوء خارطة الطريق وللقادة ان يعودوا الى انفسهم وربهم ويعلموا علم اليقين ان زمن النفاق والطبطبة قد ولى بغير رجعة وان المحاسبة هي اساس الحكم وان الشفافية والعدالة مطلبان للشعب لن يحيد عنهما .. ثمانية اشهر يمكن ان تكون بارقة امل تعيد البسمة للشفاه وتمسح دموع الام الثكلي على وليدها الذي راح في الاضطرابات والمظاهرات برصاصات الغدر .. وللفقير ان يأمل في ان ينال حقه في الحياة الكريمة في بلد هي اغني بلاد الارض .. فترة انتقالية بحق للجميع .. تنتقل بنا إلى الممارسة الحقيقية للديموقراطية .. وإلى العمل الجاد من اجل لحاق ركب التقدم والحضارة .. فترة ننسى فيها ملفات وضعها الإعلام الزائف أمامنا لننشغل بها عن الغد المشرق.. ملفات الاموال الهاربة والفاسدون في طرة والاحداث في محاكم الفساد .. وكم عدد من سيذهب لميدان التحرير في كل يوم جمعة .. ملفات غبية .. وضعها أمامنا الجاهلون .. نضعها جانبنا ونتركها لمن تولى مسئوليتها وننتظر وقت الحساب بعد ان نزرع الامن والامان لبلد وصفها الله سبحانه وتعالي في قرآنه الكريم بالأمن والامان ..{ ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين }.. وقتها .. ستكون مصر بالفعل .. وليس بالشعارات .. فوق الجميع
والله المستعان

إرسال تعليق

يسعدنا قبول تعليقاتك

أحدث أقدم

نموذج الاتصال