الإكتفاء والإنتقائية - صلاح سليمان

ننتج نصف ما نستهلكه من القمح، فيتحتم علينا أن نستورد النصف الثاني. ... نزرع قمحا في كل عام ما يربو قليلا على ثلاثة ملايين من الأفدنة وهو ما يقارب نصف مساحة الأرض التى يتم زراعتها من المحاصيل غير المستديمة. أي اننا نطبق عبثا دورة ثنائية في زراعة القمح، ولكى نكتفى ذاتيا من القمح علينا الإختيار بين طرق ثلاث أو نستعين ببعضها مع البعض.

الإختيار الأول: أن نزرع كل الأرض الزراعية التى نزرعها الآن بكل أنواع المحاصيل غير المستديمة قمحا وعلى الدوام.

وفي هذا عين العبث الذي سيؤدي الى إنخفاض شديد في إنتاجية القمح، كما لن يكون في مقدورنا أيضا أن نوفر الخضراوات وغيرها من المحاصيل لنا ولحيواناتنا وسنضطر إلى إستيراد كل ذلك، مضافا إلي القمح لتغطية النقص في الإنتاج الذى سيحدث نتيجة زراعة القمح على الدوام فى دورة زراعية أحادية.

الإختيار الثاني أن نترك للبحث العلمى الزراعي المجال ونوفر له الدعم اللازم لإكتشاف سلالات جديدة من القمح تعطى ضعف ما تعطيه السلالات الحالية

أى ست وثلاثون - نعم ست وثلاثون - أردبا من القمح بدلا من ثمانية عشر. أهل العلم يعرفون أن فى ذلك شبه إستحالة.

أما الخيار الثالث والذي يقترحه كثيرون - نعم كثيرون - أن نذهب إلي الصحراء الغربية نبذرها فتعطينا قمحا.

حلا سحريا يستغرب العقل لماذا لم يتم تبنيه إلى الآن. ذلك أننا نعيش في هذا الوطن منذ ألاف السنين بكل خبراتنا وكأن أحدا لم يأخذ تلك المبادرة ويقوم بتلك المغامرة، لكن الحقيقة هي أنه وكعادتنا نحاول دائما إكتشاف العجلة من جديد في كل شىء وفى كل مجال.
لقد جربنا ذلك الطريق جزئيا في الخمسينيات والستينيات من القرن السابق يوم أن كان نصيب الفرد من الماء يزيد على ألفي متر مكعب سنويا، إستصلحنا رقعة زراعية جديدة تربو قليلا على مليون فدان فى جنوب وشمال التحرير.
وعندما عدنا مؤخرا للتوسع الزراعي في وادي النطرون - إستنفزنا الماء الجوفي الذي يعتمد عليه شمال التحرير. فدمرت مزارع الإستصلاح فيه، ويشاهدها المسافر على الطريق الصحراوي
الآن بعد النوبارية في اتجاه الأسكندرية.حيث تحولت أراض كانت قد استصلحت في شمال التحرير إلي مداخن لمصانع الطوب والأسمنت
بديلا عن كروم العنب وغيره من الفاكهة والخضر والمحاصيل ناهيك عن أن نصيب الفرد من الماء تدنى الآن ليصبح أقل من سبعمائة متر مكعب سنويا، إنها معادلة صعبة يعرفها البعض ويفهمونها جيدا لكن وللأسف يغمض الطرف عنها كثيرون ويأبون وضعها نصب أعينهم.
علينا أن نوازن بين المتاح من المياه بكل مصادرها وبين أنواع ومساحات المحاصيل التى علينا أن نتبنى زراعتها. علينا أن نفكر ألف مرة حول هذه المعادلة وعلينا بلا مجال للإستكبار والجدل العقيم أن نغلب العقل. أن نحسب قيمة المردود من ناتج ما نزرعه لكل قطرة ماء متاحة نستخدمها فيه وعلينا أن نستخدم كل قطرة من هذا الماء بحكمة ورشاد.
علينا أن نطوع أركان هذه المعادلة. فنزرع للكفاية. نزرع بعض ما نأكله ونزرع ما يمكن أن نصدره بنقود نستخدمها لإستيراد ما يوصلنا إلى تلك الكفاية، وفقا للإحصاءات الرسمية (الهيئة المصرية العامة للرقابة على الصادرات والواردات) المنشورة في نهاية شهر إبريل الماضي فإن مصر قامت باستيراد منتجات زراعية طازجة وصلت قيمتها إلي 19.2 بليون جنيه مصري فى عام 2009 قفزت إلي 42.8 بليون جنيها عام 2012 أي خلال ثلاث سنوات هذا بينما كانت قيمة الصادرات الزراعية المصرية 11.5 بليون جنيه في عام 2009 إنخفضت إلي 10.3 بليون جنيها في عام 2012.
نحتاج إلي اإستيراد ثمانية ملايين طن من القمح سنويا (وهو في تزايد) قيمتها على أساس متوسط 250 دولار للطن تصل جملتها إلي 2 بليون دولار أي ما يقترب من 14 بليون جنيها، معظم صادراتنا الزراعية الطازجة هي من الخضروات والفاكهة التي تعطينا ما يكفينا منها ونصدر ما يعود علينا بقيمة ال 10.3 بليون جنيه المذكورة آنفا، ويعرف أهل المعرفة في الزراعة أننا نزرع من الفاكهة والخضر أقل من تلك المساحة التي نزرعها قمحا ويعرف هؤلاء أن قيمة إنتاجية الفاكهة والخضر تزيد بما لا يقل عن ثلاثة إلي خمسة أمثال قيمة إنتاجية القمح.
فدان القمح يعطي قمحا قيمته تزيد قليلا على 5.000 جنيها مصريا أما فدان الخضر أو الفاكهة فيعطي محصول لا تقل قيمته في المتوسط عن 15.000 - 30.000 جنيها وهذا مع استخدام أقل للماء.
المردود الإقتصادي للماء في الخضر والفاكهة أكثر بكثير منه في القمح لكن هؤلاء يخوفوننا بشعاراتهم مثل "من لا يملك قوته لا يملك قراره" ويحاولون إقناعنا بأن "القوت" هو القمح فقط وليس شيئا غيره. وتحت هذا الشعار تحولنا من دولة زراعية تنتج ما يكفيها وتصدر ما كان يزيد عليه إلي دولة تستورد معظم قوت يومها، ربما كان لهذا الشعار أساس في زمن الإحتكارات الإقتصادية أما الآن ومع التوسع الزراعي العالمي فإن الزمن تحول إلي اقتصاد السوق الحر.
سينتج لك منتجون كثيرون ما تفكر في أن تشتريه وسيتنافسون على إنتاجه لك، نعم، المستهلكون هم الذين يحددون حجم الإنتاج. أنه زمن الوفرة ولم يبقى عليك إلا أن تعرف القيمة التنافسية التي تمتلكها أنت كي تدخل في السباق وتحقق كفايتك بل وحتى تستزيد عليها.
مرة أخرى نحن نستورد من المنتجات الغذائية ما يصل الى أربعة أضعاف قيمة ما نصدره. ربما يكون من الممكن التعامل مع تلك المعادلة المائية - الأرضية - المناخية، ومع إدخال عامل ميزة التنافسية الشخصية بالتوسع في زراعة محاصيل أو خضراوات أو فاكهة نتميز بها أو هى أكثر انتاجية عندنا عنها عند غيرنا ربما يصبح في مقدورنا أن نعزز هذا الميزان لصالحنا - ميزان الكفاية وليس الإكتفاء.
ذلك أن أحدا اليوم في كل هذا العالم لا يمكنه أن يكتفى ذاتيا، علينا أن نجود ونحسن من قدراتنا العقلية لفهم هذه المعادلة ونعرف حقيقة اللعبة. لعبة تعظيم الميزات التنافسية التى نمتلكها.

إرسال تعليق

يسعدنا قبول تعليقاتك

أحدث أقدم

نموذج الاتصال