ماذا لو تحقق الحلم - نهاد عسكر

 

منذ زمن بعيد وأنا أنظر إلى الإتحاد الأوروبى نظرة إنبهار وتعجب عندما أرى الحكومات الأوروبية تجتمع وتناقش قضاياها ومشاكلها وتصر على الوصول لحلول تضع مصالح كافة الأطراف فى الإعتبار..
كنت دائما أتساءل كيف استطاعت هذه الدول أن تكوَن كتلة إقتصادية هائلة تدعى الإتحاد الأوروبي رغم اختلاف الجنسيات واللغة والرؤى الإقتصادية. ودائما ما كان يثور بداخلى سؤال كيف تغلبت هذه الدول على تلك الخلافات واستطاعت أن توحد عملاتها وتفتح الباب على مصراعيه لتدفق حركة التجارة بين حدودها كأنها دولة واحدة ؟...وكيف تمكنت من وضع قوانين موحدة رغم إحترامها لخصوصيات كل دولة؟ وكثيرا ما تبادرإلى ذهنى السؤال لماذا وأنت تتجول فى أوروبا لا تقابل من يسأل عن ديانتك أوعقائدك أوتبعيتك الحزبية ؟
وبالرغم من وجود بعض الإضطهاد للأقليات فى بعض الدول الأوروبية، ورغم وجود كثير من التشويه والتضليل الإعلامى الناتج عن التعصب وغيره، ورغم إختلاف الطوائف والفرق والعبادات إلا أن هذا لم يمنع الحكومات من الإتحاد معاً لمجابهة العالم بأسره والتعامل معه ككيان واحد متكامل.
فبعد أن مضت عصور من الخلافات الدينية بين الكنائس المختلفة واندلعت فى القرنين السادس عشرو السابع عشر كثير من الحروب الأهلية بين الكنائس والتبعيات الدينية، إلا أن فكرة القومية تبلورت فى القرن الثامن عشر فى أوروبا، وتزامنت مع تجربتين لهما عميق الأثر في المسيحية: التجربة الأولى ممثلة بقيام الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1789 ، وكانت الولايات المتحدة مزيجًا من طوائف بروتستانتية عديدة لا تنظمها سلطة مركزية واحدة. والثانية قيام الحرب العالمية الأولى وإنتشار الشيوعية بما حملته من تأثيرًا سلبياً على الكنيسة الروسية الأرثوذكسية وإستقلال عدد من الكنائس التابعة لها وعندئذ قادت الكنيسة الكاثوليكية، معارضة عالمية ضد الشيوعية .
ثم انعقد المجمع الفاتيكانى الثانى عام 1963 وأصدرعدة دساتير تنظم دورالبابا والأساقفة وتعيد رسم قواعد الحياة الرهبانية، وتبني الحوار مع الطوائف المسيحية الأخرى والأديان المختلفة.
وبينما كانت الكنائس البروتستانتية تعيش بهدوء بشكل عام خلال القرن العشرين في أوروبا، إلا أن الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك في البلقان قامت بينهم حرب أهلية طاحنة سنة 1992، كما اندلعت أعمال عنف بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا الشمالية التي استمرت إلى أكثر من 25 سنة، حتى وضعت إتفاقية الجمعة الحزينة لإحلال السلام حدًا لها سنة 1998.
وقد كانت السمة العامة في مطلع القرن العشرين هو التقارب بين الكنائس والطوائف المسيحية، وتأسس مجلس الكنائس العالمى عام 1948 بهدف تقليل الاختلافات حول العقائد وتطوير الوحدة المسيحية، ورغم وجود الخلافات والإختلافات التى مر بها المجتمع الأوروبي إلا أن ما نراه الآن هو القدرة على تنحية تلك الخلافات جانباً لإنشاء كيان إقتصادي عملاق يستطيع أن يحقق مصالح كل الدول المشتركة فيه. فلن ترى اليوم أوروبياً يسألك أأنت بروتستانتياً أم كاثوليكياً أم أرثوذوكسياً؟ أو يسأل ما هى كنيستك أوكم مره تصلى أو تذهب إلى الكنيسة؟...ولم نسمع قط عن أن أحدهم يكفرالآخر أويقلل من شأنه أو يرفض التعامل معه لإختلاف الملة أوالإنتماء الدينى...لقد أصبح الأمر الهام بالنسبة لهذه الشعوب هو ماذا تفعل؟ كيف تفكر؟ ما خبراتك؟ ما هى خططك المستقبلية؟ كيف يؤثر عملك فى المؤسسة التى تعمل بها و كيف يعود بالنفع على وطنك؟ ..أما تبعيتك الدينية فهى أمر يخصك أنت فقط و لن تجد من يسألك عنه إلا من باب الفضول الشخصى أو العلم بالشئ.
ماذا لو تعلمت الدول العربية والإسلامية هذا الدرس!! وتغلبت على خلافاتها الداخلية لتصبح كياناً يملك القدرة البشرية والعلمية والموارد التى تمكنها من أن تقود العالم بأسره؟ ماذا لو تخلصنا من تأثير الأيادى الدخيلة التى تعبث بالمنطقة لتأمين مصالحها والسيطرة على مواردنا و تتبع سياسة "فرق تسد" لتضمن بقاءها فى المنطقة؟ ماذا لو تعلمنا من أخطائنا التى كشفت لنا الوجه القبيح للعدو الذى يتبع كافة الوسائل من حرب تارة وفرض عزله إقتصادية تارة أخرى وحروب باردة وغزو فكرى لتدمير الهوية العربية الإسلامية بكافة الطرق. ولماذا لم تنجح الجامعة العربية فى تحقيق وحدة دول الإقليم، ولم يكن لها دوراً فعالاً فيما يمر بالمنطقة من أحداث؟
وقد كانت الإجابة على تلك التساؤلات فى السابق تنحصر فى وجود حكومات مستكبرة وحكومات عميلة فى الوطن العربى لا تضع فى اعتبارها مصلحة الوطن بقدر ما تحقق مآرب شخصية وتنفذ سياسات أمريكية مفروضة عليها. فقد كان القرار فى يد نظم لا يمكن وصفها إلا بالظلم والاستبداد والقهر والفساد الذى ساد الوطن العربى لأعوام وأعوام. تلك الحكومات التى دمرت الإقتصاد والتعليم والصحة، وقتلت الإبداع و قضت على الأخضر واليابس وامتصت ثروات هذا الوطن. والأسوأ من ذلك أنها سمحت لقوى خارجية بالتدخل فى شئون دول الإقليم، تارة بحجة حماية المواطنين وتارة للقضاء على الإرهاب، وتارة بإدعاء وجود أسلحة دمار شامل أوسلاح نووي ..أوغيره. كما أنها لم تألٌ جهدا فى إثارة الفتن القبلية وإبراز الإختلافات البينية سواء فى العقائد أوالطوائف أوالإستراتيجيات السياسية. ولم يكن هناك أمل فى ظل وجود تلك الحكومات أن تكون هناك وحده لهذه الأمة الإسلامية تجعل منها كيانا إقتصاديا وسياسيا قويا يواجه العالم كله ويدوي صدى صوته كل الأرجاء محققا الريادة و التقدم فى كافة المجالات.
ولكن شمس الربيع العربى بدأت تشرق على دول الإقليم. فتوالى سقوط الأنظمة التى فسدت و تحللت ولم يعد يصلح لها أى ترميم. توالى سقوطها بعدما حاولت استخدام كل الأسلحة الخسيسة فى وأد تلك الثورات الحرة وسقطت النظم التى ظلت جاثمة على أنفاسنا وكابتةَ لحرياتنا حتى ظننا أنه لن يأتى يوم الخلاص..توالى سقوط الطواغيت الذين ظنوا أنهم يملكون البلاد والعباد. وبدأت الأمة في التغلب على الوباء الذى انتشر فى جسدها فأعياها وأمرضها وأنهك قواها فباتت عاجزة عن التعافى، سقط الواقع الذى كنا نعيشه أسفا وظهر لأول مرة أمل فى مستقبل أفضل.
حيث بادرت تونس برفع راية التحرر من حكومة الظلم و الإستبداد و تلتها مصر ثم ليبيا فاليمن ومازالت هناك دولا فى طريقها للتحرر مثل سوريا وأخرى قمعت الثورة مثل البحرين...إلا أن الباب قد فتح على مصراعيه أمام بقية الدول. وفى ظل زيادة الوعى والإرادة الحديدية والإيمان العميق بالحق، وفى ظل زيادة التواصل بين الشعوب يتوقع ألا يطول عهد الظلام والإستبداد فى الإقليم طويلاً...سيسقطون بإذن الله واحدا يلو الآخر.
ومع بداية هذا العهد الجديد ظهرت هنالك نزعة دينية تؤكد رغبة هذه الشعوب في العودة لتعاليم الدين الإسلامي وتحقيق العدالة الإجتماعية والمساواة التى يدعو لها ديننا الحنيف، وبزغ الفجرو اجتاحتنا موجات من التفاؤل بمستقبل جديد للمنطقة. مستقبل نأمل أن تلتزم فيه الحكومات الجديدة التى إختارتها أوستختارها الشعوب بتحقيق العدل والمساواة وتتخلص من الفساد والمحسوبية، مستقبل نأمل فيه أن نشهد تكريما للعلم والعلماء وتضافرا لإنشاء مشروعات قومية تنهض بالإقتصاد، ويحدونا الأمل في أن تتعاون كافة الدول للمشاركة فى حل المشكلات التى أعيت الجسد العربى مثل البطالة والأمية، دعونا نفترض أن تعمل الحكومات الجديدة جاهدة لإحراز التقدم والرقى المنشود لبلادها، دعونا نتخيل أن هذه الحكومات استطاعت أن تتخلص من أى سيطرة خارجية، وكممت كل الأفواه التى تتدخل فى الشئون الداخلية لتحقيق مصالح شخصية، دعونا ننتظر أن تتعامل هذه الحكومات مع الآخر بندية ولا تنزلق إلى فتن طائفية يفرضها العدو لإثارة التفرقة بين المسيحيين والمسلمين ..أو بين الشيعة والسنة. دعونا نفترض أن تستفيد تلك الحكومات من كافة مواطن القوة الموجودة لديها وتتغلب على نقاط الضعف بمساعدة بعضها البعض، دعونا نحلم بإنشاء محور إقتصادي يربط العالم الإسلامي من إيران و تركيا شرقاً إلى المغرب غرباً.
دعونا نتخيل وحده الشعوب الإسلامية التى تمتلك أهم مصادر الطاقة في العالم مثل السعودية، الدولة الأولى فى إنتاج البترول والخامسة فى إحتياطي الغاز، والإمارات الثامنة فى إنتاج البترول وإيران التى فرضت عليها الحروب والعزلة الإكتفاء الذاتى فباتت تحقق تقدما تكنولوجيا فى كافة المجالات، ومنها الإستخدام السلمى للطاقة النووية وكذلك تكنولوجيا النانو، الى جانب أنها تعد الدولة الثالثة فى إنتاج الغازوالرابعة فى إنتاج البترول. هذا بالإضافة إلى توافر الأيدي العاملة المدربة والكفاءات العلمية والأراضى الخصبة فى مصر والعديد من الدول العربية الأخرى. والكثير والكثير من الموارد و الكنوز التى يحفل بها الوطن العربى. ولا يجب أن ننسى الإستفادة من خبرات تركيا التى حققت فى الآونة الأخيرة طفرة إقتصادية و تقدما فى كافة المجالات وفتحت يديها لتقديم العون للحكومات العربية الجديدة منذ اليوم الأول لها. فإذا نجحت تلك الشعوب فى تنظيم الصفوف وبث العزيمة وقوة الإرادة فى النفوس وقامت بالثورة على الظلم والاستبداد وأصرت على مطالبها المشروعة فى الحرية والخلاص من الظلم والديكتاتورية والحق فى عيش كريم تنعم فيه بالإستقرار وتتمتع بالحرية والديمقراطية التى ينعم بها غيرها من الشعوب فى كثير من دول العالم، ويستحق أن يعيشها أبناء هذا الوطن، وكما وقفت وصمدت وأثارت إعجاب العالم أجمع، هل ستفهم معنى "الإتحاد قوة" ؟
هنا سيكون الإتحاد وسيلة وليس غاية. وسيلة لتحقيق التقدم والإزدهار والأخذ بأسباب العلوم والتكنولوجيا. وسيلة لميلاد مارد إقتصادى جديد يهابه العالم كله ويحظى بإحترام الجميع.. وسيلة لقيام حضاره جديدة تخط سطورها الإرادة العربية الإسلامية بحروف من نور.. وسيلة لنرفع رؤوسنا و نفخر بقوميتنا..وكم غاب عنا هذا الشعور لسنوات عديدة!!
فهل من عقول تعى ...هل من مستجيب ؟؟؟

إرسال تعليق

يسعدنا قبول تعليقاتك

أحدث أقدم

نموذج الاتصال