كتب / عاطف وجدى
تعتبر ظاهرة الفساد بصفة عامة ، والفساد الإداري والمالي بصفة خاصة ظاهرة عالمية ذات جذور عميقة تأخذ أبعاداً واسعة تتداخل فيها عوامل مختلفة يصعب التمييز بينها، وتختلف درجة شموليتها من مجتمع لآخر.. إذ حظيت ظاهرة الفساد في الآونة الأخيرة بإهتمام الباحثين في مختلف الإختصاصات حتى أضحت ظاهرة لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام سياسي منها.
وظاهرة الفساد الإداري ظاهرة طبيعية في المجتمعات الرأسمالية حيث تختلف درجات الفساد حسب إختلاف تطور مؤسسات الدولة. أما في البلدان النامية ( العالم الثالث ) فإن فساد مؤسسات الدولة وتدني مستويات الرفاهية الاجتماعية تصل إلى أقصى مداها وهذا ناتج عن درجة التخلف وإزدياد معدلات البطالة فالفساد يتسع وينتشر في الجهاز الوظيفي ونمط العلاقات الاجتماعية.
|
إن الآثار المدمرة والسلبية لتفشي هذه الظاهرة تطال كل مقومات الحياة فتهدر الأموال والثروات والوقت والطاقات وتعرقل إنجاز الوظائف والخدمات وتسبب مزيداً من التأخير في عملية البناء والتقدم ليس على المستوى الاقتصادي والمالي فقط بل في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي بالإضافة إلى مؤسسات الخدمات العامة ذات العلاقة المباشرة واليومية بحياة الناس.
تعريف الفساد
مفهوم الفساد يقتضي الإتفاق في معظم البحوث على تحديد معنى المصطلحات المستخدمة ومضمونها وإستناداً لذلك يمكن تعريف الفساد لغةً وإصطلاحاً:
الفساد لغةً : (فسد) ضد صلٌحَ والفساد لغة البطلان فيقال فسد الشئ أي بَطُلَ واضمحل ويأتي على معانٍ عدة فهو (الجدب أو القحط) كما في قول الله عز وجل {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (سورة الروم آية 41) أو (الطغيان والتجبر) كما في قوله تعالى {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا ً} (سورة القصص آية 83).
الفساد إصطلاحاً : ليس هنلك تعريف محدد للفساد ولكن هناك إتجاهات مختلفة تتفق في كون الفساد هو " إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص " كما في قيام موظف بقبول أو طلب رشوة لتسهيل عقد أو صفقة أو مناقصة عامة كما يمكن أن يحدث عن طريق استغلال الوظيفة العامة بتعيين الأقارب ضمن منطق (المحسوبية والمنسوبية) أو بسرقة أموال الدولة مباشرةً.
إن للفساد آلياته وآثاره التي تؤثر في نسيج المجتمعات وسلوكيات الأفراد وهناك آليتين رئيسيتين هما:الأولى: آلية دفع (الرشوة أو العمولة) إلى الموظفين والمسئولين في الحكومة والقطاعين العام والخاص.الثانية: آلية وضع اليد على (المال العام) والحصول على مواقع متقدمة للأبناء والأقارب في الجهاز الوظيفيهذا بخلاف الفساد الكبير المرتبط بالصفقات الكبرى والذي يحدث عادةً على المستويين السياسي والبيروقراطي.
ومع تعدد التعاريف يمكن القول أن الإطار العام للفساد ينحصر في :سوء استعمال السلطة أو الوظيفة العامة وتسخيرها مقابل مصالح ومنافع تتعلق بفرد أو جماعة معينة.التأثير غير المشروع في القرارات العامة.كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية للنفس أو لجماعة.
كونه ظاهرة سلبية تتفشى داخل الأجهزة الإدارية لها أشكال عديدة تتحدد نتيجةً للثقافة السائدة في المجتمع والمنظمة وتقترن بمظاهر متنوعة (كالرشوة وعلاقات القرابة والوساطة والصداقة) تنشأ بفعل مسببات مختلفة هدفها الأساسي إحداث إنحراف في المسار الصحيح للجهاز الإداري لتحقيق أهداف غير مشروعة فردية أو جماعية.
ظاهرة سيئة نتجت عن إنحرافات سلبية في المسار الصحيح للنظام الإداري بمخالفة القوانين والمعايير الأخلاقية تحدث بشكل فردي أو جماعي لتحقق عائد غير شرعي للشخص الذي يمارسها وتؤثر على أهداف المصلحة العامة ويتحمل أعبائها الموظفون والجمهور.
أنواع الفساد:
إن الفساد بصفة عامة من حيث مظهره يشمل أنواع عدة منها:
(1) الفساد السياسي:
ويتعلق بالإنحرافات المالية ومخالفة القواعد والأحكام التي تنظم عمل المؤسسات السياسية في الدولة وتتمثل مظاهره في الحكم الشمولي الفاسد وفقدان الديمقراطية وفقدان المشاركة وفساد الحكام وسيطرة نظام حكم الدولة على الاقتصاد وتفشي المحسوبية.
(2) الفساد المالي:
ويتعلق بالإنحرافات المالية ومخالفة القواعد والأحكام التي تنظم سير العمل الإداري والمالي في الدولة ومخالفة التعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة المالية كالجهاز المركزي المختص بفحص ومراقبة حسابات وأموال الحكومة والهيئات والمؤسسات العامة والشركات وتتمثل مظاهره في الرشاوي والتهرب الضريبي والمحاباه والمحسوبية في التعيينات الوظيفية.
(3) الفساد الإداري :
ويتعلق بالإنحرافات الإدارية والوظيفية والمخالفات التي تصدر عن الموظف العام أثناء تأديته لمهام وظيفته في منظومة التشريعات والقوانين والضوابط ومنظومة القيم الفردية التي لا ترقى للإصلاح وسد الفراغ لتطوير التشريعات والقوانين وتتمثل مظاهره في عدم إحترام أوقات ومواعيد العمل في الحضور والانصراف والإمتناع عن أداء العمل أو التراخي والتكاسل وعدم تحمل المسئولية وإفشاء أسرار الوظيفة والخروج عن مقتضيات العمل الجماعي.
(4) الفساد الأخلاقي:
ويتعلق بالانحرافات الأخلاقية والسلوكية المتعلقة بسلوك الموظف الشخصي وتصرفاته مثل القيام بأعمال مخلة بالآداب أو بالحياء في أماكن العمل أو الجمع بين الوظيفة وأعمال أخرى خارجية دون إذن إدارته أو استغلال السلطة لتحقيق مآرب شخصية له على حساب المصلحة العامة أو أن يمارس المحاباة الشخصية دون النظر إلى اعتبارات الكفاءة والجدارة.
مظاهر الفساد
تبعاً لتعدد أشكال وأنواع الفساد تعددت مظاهره في تلك الأفعال الآتية:
- الرشوة: أي الحصول على أموال أو منافع أخرى من أجل تنفيذ عمل أو الامتناع عن تنفيذه مخالفة للأصل وللمحسوبية: أي تنفيذ أعمال لصالح فرد أو جهة ينتمي لها الشخص دون أن يكونوا مستحقين لها.
- المحاباة: أي تفضيل جهة على أخرى بغير حق للحصول على مصلحة معينة
- الواسطة: أي التدخل لصالح فرد أو جماعة دون الالتزام بأصول العمل ومعايير الكفاءة.
- نهب المال العام: أي الحصول على أموال الدولة والتصرف فيها من غير وجه حق.
- الإبتزاز: أي الحصول على أموال من طرف معين مقابل تنفيذ مصالح مرتبطة بوظيفة الشخص المتصف بالفساد.
أسباب الفساد الإداري
للفساد أسباب وانعكاسات عديدة يمكن ملاحظتها في الآتي :
أسباب سياسية :
تقف وراء شيوع ظاهرة الفساد وتتناسب في شدتها ودرجتها طردياً مع تنامي ظاهرة الفساد منها :
عدم وجود نظام سياسي فعال يستند إلى مبدأ فصل السلطات وتوزيعها أي غياب دولة المؤسسات السياسية والقانونية والدستورية مما يؤدي إلى غياب الحافز الذاتي لمحاربة الفساد.
ضعف الممارسة الديمقراطية وحرية المشاركة لأن انتشار الاستبداد السياسي والدكتاتورية يسهم بشكل مباشر في تنامي ظاهرة الفساد وعندها يفتقد النظام السياسي أو المؤسسة السياسية شرعيتها في السلطة وتصبح قراراتها متسلطة بعيدة عن الشفافية.
عدم إستقلالية القضاء لأن إستقلاليته مبدأ ضروري وهام ويستمد ضرورته من أن وجود سلطة قضائية مستقلة نزيهة تمارس عملها بشكل عادل وتمتلك سلطة رادعة تمارسها على عموم المجتمع دون تمييز هو أحد أركان تحقيق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع.
قلة الوعي السياسي وعدم معرفة الآليات والنظم الإدارية التي تتم من خلالها ممارسة السلطة.
أسباب اقتصادية :
- غياب الفعالية الاقتصادية في الدولة حيث أن أغلب العمليات الاقتصادية عبارة عن صفقات تجارية يحتل الفساد المالي فيها حيزاً واسعاً.
- قلة الوعي الحضاري المتمثل في مستوى الجهل والتخلف والبطالة الذي يشكل عامل حاسم في تفشي ظاهرة الفساد.
- ضعف الأجور والرواتب الذي يتناسب طردياً مع إزدياد ظاهرة الفساد.
وقد كان لهذه الأسباب الاقتصادية بعض الآثار والانعكاسات الاقتصادية المتعلقة بالظاهرة منها:
- يساهم الفساد في تدني كفاءة مؤشر الإستثمار العام.
- الفساد له أثر مباشر في حجم ونوعية الاستثمار الأجنبي.
- يرتبط الفساد بتدني مستوي ومعدلات الدخل والثروة والتفاوت الكبير بينها الناتج من إستغلال أصحاب النفوذ لمواقعهم المميزة مما يتيح لهم الإستئثار بالجانب الأكبر من المنافع الإقتصادية بما يؤدي إلى توسيع الفجوة بينهم وبين باقي أفراد المجتمع.
أسباب اجتماعية :
وهى تتمثل في :-
- العادات والتقاليد الاجتماعية التي تلعب دوراً هاماً في نمو ظاهرة الفساد أو إقتلاعها من جذورها.
- التنظيم الاداري والمؤسسي له دور بارز في تقويم الظاهرة من خلال العمل على تفعيل النظام الاداري ووضع ضوابط مناسبة لعمل هذا النظام.
- غياب الثقة في تطبيق المثل الإنسانية.
آثار الفساد الاداري
تعددت آثار الفساد الاداري على نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية:
آثار الفساد على النواحي السياسية:
- يؤثر على مدى تمتع النظام بالديمقراطية وإحترام حقوق المواطنين.
- يؤدي إلى إتخاذ القرارات طبقاً للمصالح الشخصية.
- يقود إلى الصراعات الكبيرة عند تعارض المصالح.يؤدي إلى خلق جو من النفاق السياسي.
- يؤدي إلى ضعف المؤسسات العامة ومؤسسات المجتمع المدني.
- يسيئ إلى سمعة النظام السياسي وعلاقاته الخارجية.يضعف المشاركة السياسية.
- الفشل في جذب الإستثمار الأجنبي
- إهدار الموارد
- تقاعس وتردد الجهات الدولية التي تقدم المساعدات المالية والفنية
- هجرة الكفاءات الاقتصادية لغياب التقدير وبروز المحسوبية.
- إنخفاض معدلات النمو الاقتصادي.
- إنخفاض معدل الإنفاق على الخدمات العامة.
- يؤدي إلى خلخلة القيم الأخلاقية والإحباط وإنتشار اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع.
- يؤدي إلى إنتشار الجريمة كرد فعل لإنهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص.
- يؤدي إلى عدم المهنية وفقدان قيمة العمل.يؤدي إلى تراجع الاهتمام بالحق العام
- يؤدي إلى إنتشار الفقر والجهل والتخلف الحضاري.
- يؤدي إلى الشعور بالظلم مما يؤدي إلى الإحتقان الاجتماعي وإنتشار الحقد بين شرائح المجتمع.
( حلول ومعالجات )
إن إستراتيجية مكافحة الفساد الإداري تمثل كافة الإجراءات التي تتخذ في المنظمة بهدف إحراز أداء أعلى وتعتمد على الشمولية والتكامل لمكافحة هذه الظاهرة وتوقير الإرادة الجادة والحقيقية من قِبل القيادة السياسية لمحاربة الفساد الإداري وتشكل آليات مكافحة الفساد التالية عناصر أساسية في هذه الاستراتيجية :-
أ- المحاسبة: وهي خضوع الأشخاص أصحاب المناصب العامة للمساءلة القانونية والإدارية والأخلاقية عن نتائج أعمالهم.
ب- المساءلة: وهي واجب المسئولين عن الوظائف العامة في تقديم تقارير دورية عن نتائج أعمالهم وحق المواطنين في الحصول على المعلومات اللازمة عن أعمال الإدارات العامة للتأكد من أن عمل هؤلاء يتفق والقيم الديمقراطية وتعريف القانون.
ج- الشفافية: وهي وضوح ما تقوم به المؤسسة ووضوح علاقتها مع الموظفين والمنتفعين بالخدمة وعلنية الإجراءات والغايات والأهداف.
د- النزاهة: وهي منظومة القيم المتعلقة بالصدق والأمانة والإخلاص والمهنية في العمل.
ورغم تقارب مفهومي الشفافية والنزاهة إلا أن الثاني يتصل بقيم أخلاقية معنوية بينما الأول يتصل بنظم وإجراءات عملية.
وإن أي استراتيجية لمكافحة الفساد تتطلب استخدام وسائل شاملة على النحو التالي:
- تبني نظام ديمقراطي يقوم على مبدأ فصل السلطات وسيادة القانون.بناء جهاز قضائي مستقل وقوي ونزيه.
- تفعيل قوانين مكافحة الفساد على جميع المستويات.
- تعزيز دور الرقابة والمساءلة للهيئات التشريعية.
- تعزيز دور هيئات الرقابة العامة التي تتابع حالات سوء الإدارة في مؤسسات الدولة وعدم الإلتزام المالي والإداري وغياب الشفافية في الإجراءات المتعلقة بممارسة الوظيفة العامة.
- التركيز على البعد الأخلاقي وبناء الإنسان في قطاعات العمل العام والخاص من خلال التركيز على دعوة كل الأديان إلى محاربة الفساد بأشكاله المختلفة ومن خلال المواثيق المتعلقة بشرف ممارسة الوظيفة (مدونات السلوك).
- إعطاء الحرية للصحافة الصادقة وتمكينها من الوصول إلى المعلومات للقيام بدورها في نشر المعلومات وعمل التحقيقات التي تكشف قضايا الفساد.
- تنمية الدور الجماهيري في مكافحة الفساد وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني والجامعات والمثقفين في محاربة الفساد.
- تبسيط وسائل العمل.
- إجراء تنقلات دورية بين الموظفين (كلما أمكن ذلك).
- إعتماد معيار الكفاءة والخبرة في الترشيح للوظائف الحكومية والعامة.
- العمل بمبدأ الشفافية في جميع مرافق ومؤسسات الدولة.
- العمل على إيجاد السبل اللازمة للخروج من نفق الفساد بإصلاح الدمار الكبير في منظومة القيم وأنماط التفكير وما يرافقها من أمراض كالسلبية والانتهازية.
إذا كنا جادّين في التخلص من الفساد والقضاء علي أسبابه فعلينا:
إعتماد استراتيجية شاملة ودقيقة تتضمن إجراءات رادعة ووقائية وتربوية واضحة توجه ضربات قاصمة للمؤسسات والأفراد الفاسدين والداعمين للفساد في جميع المستويات الإدارية وبدون استثناء وتعتمد الخبرات والكفاءات ووضع آليات موضوعية للتوصيف الوظيفي في اختيار المسئول.
إعتماد بعض الإجراءات التي تساعد على القضاء على ظاهرة الفساد الإداري مثل تبسيط إجراءات العمل وتقويم أداء الموظفين بصفة مستمرة لكشف الانحرافات وتصحيحها وتفعيل القوانين ووسائل الردع.
تحقيق توازن اقتصادي كبير ورفع المستوى المعيشي للمواطنين وخاصة الموظفين.نشر ثقافة الولاء والإنتماء والتفاني في العمل لتحقيق المصلحة العامة .
نشر المدركات الأخلاقية والدينية والثقافية والحضارية بين عموم الموظفين كل ذلك يمثل منظومة متكاملة يطلق عليها منظومة إحتواء ظاهرة الفساد وتحجيمها ومن ثَمَ القضاء عليها.
وقبل كل هذا وبعده .. يجب ألا ننسى .. وأن نعي تماماً قول الله عز وجل :{إنَّما جزاءُ الذين يحاربون اللَه ورسولَه ويَسعَونَ في الأرضِ فساداً أن يُقَتّلوا أو يُصَلّبوا أو تُقَطّع أيدِيِهم وأرجُلهُم من خِلافٍ أو يٌنفَوْا من الأرضِ ذلك لهم خزيُ في الدنيا ولهم في الأخِرَةِ عذابٌ عظي} (سورة المائدة آية 33) صدق الله العظيم..
التسميات
مقالات