ربيع العمر .. أمل يتجدد وشيخوخة تتوارى - أشرف بركات

قد ينزعج البعض من إقتراب شبح سن التقاعد بوصفه المدة الزمنية المحددة لنهاية الخدمة طبقاً لقانون العمل بالقطاع الحكومي، ولكن من يتأمل مشوار حياته، ويستعرض خبراته والمحطات التى وقف عليها طويلاً يمكنه إدراك الحقيقة، بأن الشباب يبدأ بعد الستين وفقاً لمقولة الكاتب الأميركي الشهير "هنرى ميلر" الذي يجزم بأن للحياة أوجه كثيرة تُظهر غصون العمر وتبدل الشيخوخة بالربيع.
هكذا يتلخص رأى المجربين وأصحاب الخبرات فى مسيرة الإنسان، التى تبدأ منذ الطفولة وتنتهى بالموت.. ليس مجازاً أن الشباب يبدأ بالفعل بعد سن الستين فمفاد القول أن الإستعداد النفسى للحياة هو الذي يطيل العمر، ويجعل الإحساس بالسن فى الخلفية فلا يعوق مسيرة المرح والفرح والعطاء إذا ما أراد الإنسان أن يحيا كما يحب، ولو أردنا أن ندلل على صحة ما نقول سنجد أمثلة كثيرة لرموز فى الإقتصاد والعلوم والثقافة لم تتقيد أنشطتهم بالمقياس الزمني فعلى سبيل المثال ظل عميد الأدب العربي طه حسين يكتب وينقد ويحصل على أعلي الدرجات العلمية والأنواط الأدبية والتقديرية حتى بلغ من العمر عتيا وهو الكفيف الذى لم يعترف يوماً بالإعاقة ولم يعش ظلمة غياب البصر, حيث عاش فى نور البصيرة وأفني حياته فيما تفوق فيه، فصار علماً يرمز به فى الفن والفكر والثقافة والسياسة.
إن الخروج من دائرة العمل لا يعني الخروج من دائرة الحياة، فهناك العديد من الشخصيات والرموز التي أبدعت فى مجالاتها ولم يصيبها عامل السن باليأس أو الإحباط، وقد حكي لنا التاريخ عن بعض الرموز التى أثرت الحياة بفكرها وآدابها وعلومها ولعل النابغة الذبياني وهو من فحول الشعراء وأساطينها ومن أكثرهم شهرة ونبوغ قد وصل الى ما وصل اليه من فصاحة وإبداع بعد إنقضاء سنوات الشباب، وقد زخر الغرب أيضا بالعديد من الأشخاص اللذين واصلو حياتهم وتفوقهم بعد سن الستين ومن أمثلتهم الكولونيل هارلند ساندرز الرجل المشهور "ذو الشيب الأبيض" الذي ترمز صورته لأشهر سلسلة مطاعم فى العالم "كنتاكي" لم يعبئ يوما بعامل السن وواصل تحديه ونجاحاته كشاب فى الثلاثين من عمره.
 الأمثلة كثيرة لا تقف عند حد ما ذكر, فكتب التاريخ حُبلى بسير العديد والعديد ممن أبدعوا في "مرحلة عمرية متقدمة" ومازال العالم يحتفي بإنجازاتهم إلى يومنا هذا، من بين هؤلاء الفيلسوف "كانت" الذى أخرج ثلاثة مؤلفات عظيمة في الأنثربولوجيا، والميتافيزيقا، والخلق بعد السبعين.
كما كتب العالم الفرنسي لامارك مؤلفه العظيم (التاريخ الطبيعي للفقاريات) في الثامنة والسبعين، وأتم الفيلسوف والأديب الألماني جوته رائعته المسماة "فاوست" في الثمانين من عمره، كما آلف الموسيقي فيردي مسرحية "عطيل" في الرابعة والسبعين، بل إن الشئ اللافت للنظر أن أهم وأعظم إكتشافات العالم "إديسون" كانت في مراحل عمره المتأخرة .
والمؤكد أن كل هذه النماذج الناجحة والرائدة إنما تدلل على أن النضج العقلي والخبرة العملية (وهما بطبيعتهما لا يأتيان إلا في سن متقدمة)، يلعبان دوراً أساسياً في العبقرية والإبداع... ولو أننا إتخذنا من هذه الشخصيات دروساً مستفادة كنموذج للمحاكة سنتعلم أن الخبرة المتراكمة لدى الموظف أو القيادي تفسح له مجالات عديدة للعمل خارج الإطار الرسمي لمؤسسات الدولة، فيمكنه نقل خبراته لأجيال قادمة قد لا تتاح لها فرصة تحصيل نفس الخبرات فهناك من يعمل من أساتذة الجامعات أستاذا غير متفرغ أو أستاذا زائراً، وأيضا بإمكان المهندس أن يعمل بالقطاع الخاص مستشاراً يُثمن مجهوده حسب قدرته العلمية وهو قانون معمول به فى العديد من الدول المتقدمة التى لا تُفرط فى كفاءاتها بل تعتمد عليها فى بناء قواعد الإقتصاد والتنمية وغيرها.
وما ينطبق على كل العناصر المتفوقة التي بلغت سن المعاش ينطبق أيضا على رجال الجمارك وموظفوها الذين نعتز بهم أيما إعتزاز, ونحفظ جميلهم بأنهم لعبوا دوراً رئيسياً فى النهوض بالعمل الجمركي، ولن تتوقف مسيرتهم عند هذا الحد ولكنهم سيواصلون العمل على صعيد أخر، طالما أن شبابهم يتجدد وقدرتهم على العطاء مازالت مستمرة، وفى النهاية علينا أن نتذكر أن قطرة المطر التى  نحتت الصخر لم تكن  لتنحتها بقوتها.. وإنما بتكرارها..!!

إرسال تعليق

يسعدنا قبول تعليقاتك

أحدث أقدم

نموذج الاتصال