المناطق الحرة الخاصة والسلطة الجمركية – إبراهيم عرفان

من أهم ما حققته ثورة 25 يناير المجيدة تحرير إرادة الإنسان المصري وتحرير قدرته على المواجهة، وأصبحت السلطة للشعب ولا تعلو عليه سوى سلطة القانون وحده. والمتصفح لقانون ضمانات وحوافز الإستثمار رقم 8 لسنة 1997 ولائحته التنفيذية رقم 2108 وتعديلاتها، إنتهاءا بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1247 لسنة 2004 يجده قد أفرغ سلطة الجمارك من مضمونها الحقيقي باعتبارها أحد حراس الخزانة العامة للدولة. وسوف نستعرض دلائل ذلك في النقاط التالية.

أولا :- المادة رقم 69 من اللائحة التنفيذية لقانون الإستثمار والتى تنص على:

" تلتزم المشروعات بجرد موجوداتها سنويا بحضور مندوبي المنطقة الحرة ومن ترى إدارة المنطقة الإستعانة بهم من الجهات المعنية، ويجوز لإدارة المنطقة القيام  بالجرد كلما اقتضت الظروف ذلك سواء بإجراء جرد كلى مفاجىْ أو جرد جزئي لصنف من الأصناف, وفى حالة إكتشاف العجز أو الزيادة يحرر محضر بذلك يوضح به الصنف والكمية والوزن تفصيلا وتاريخ الجرد ويوقع عليه مندوب المشروع ومندوب المنطقة ومندوب الجهة التى تكون قد استعانت بها إدارة المنطقة. وعلى المشروع وضع السجلات والدفاتر تحت تصرف إدارة المنطقة لإجراء عمليات الفحص والمعاينة والمطابقة وعلى إدارة المنطقة إخطار الجمارك لتحصيل الضرائب والرسوم الجمركية والغرامات المقررة بقانون الجمارك وذلك فى حالة العجز أو الزيادة غير المبررة."
 ويبدو من صريح النص أن هناك إغفال لذكر سلطة الجمارك باعتبارها أحد أضلاع مثلث جرد البضائع غير الخالصة للضريبة الجمركية. وهو إغفال غير مبرر، ولا يغني عنه أن هناك تمثيل فعلي لسلطة الجمارك في هذه اللجنة، كما لا يغني كذلك النص في ذات المادة على عبارة " من ترى إدارة المنطقة الاستعانة بهم من الجهات المعنية " , إذ من المتصور أخذا بظاهر النص أن تتمسك هيئة الإستثمار بإجراء عملية الجرد في غيبة رجال الجمارك.
 ولا يكون على الجمارك في هذه الحالة سوى أن تنتظر أن تخطرها هيئة الإستثمار بالعجز أو الزيادة إن وجدت لتحصيل الضرائب والرسوم. ولا شك أن في ذلك إغفال للسلطة الوحيدة التي ناط بها القانون تحصيل الضريبة الجمركية على السلع التي تدخل إلى الإقليم أو تخرج منه. كما ناط بها الرقابة على السلع غير الخالصة للضريبة الجمركية. مما يتعين معه على المشرع تدارك ذلك. ويتعين على مصلحة الجمارك السعي حثيثا نحو تعديل ذلك النص. 

ثانيا :-  مادة رقم 70 من  اللائحة التنفيذية المذكورة

تنص هذه المادة على أنه:  " لا تخضع البضائع والمنتجات لأي قيد زمنى من حيث مدة بقائها فى المنطقة ,وذلك فيما عدا النباتات والمنتجات الزراعية الممنوعة وكذا المصابة بآفات ضارة "
يتم إستغلال هذا النص من قبل المناطق الحرة الخاصة المنتشرة داخل الإقليم المصرى وتحديدا العاملة في مجال الملابس الجاهزة, فنجد أن للكثير من هذه المناطق أرصدة تخزينية ضخمة جدا من الأقمشة المستوردة تصل إلى ألاف الأطنان، ويرجع تاريخ إستيرادها إلى خمس أو عشر سنوات مضت, ولا تتناسب هذه الكميات مع الطاقة الإنتاجية لهذه المصانع.
 الأمر الذى يجعل هذه الأقمشة عرضه دائما لاستبدالها- من قبل أولي النفوس الضعيفة- بأقمشة محلية الصنع. وهذا ما لمسناه في الآونة الأخيرة. ناهيك عما يظهر تباعا من كميات العجز الضخمة في أرصدة المناطق الحرة والتي تصل في بعض الأحيان إلى مئات الأطنان. والإدارات العامة للمكافحة خير شاهد على ذلك.  فلطالما أصدرت هيئة الإستثمار تصاريحا تسمح لهذه المشروعات بالإستيراد وجلب المزيد من الأقمشة المستوردة دون سؤال المستثمر عن الكميات المخزنة لديه، أو طلبت منه الإنتهاء مما تم إستيراده سلفا من سنوات، خاصة وأن المستثمر حال قيامه بالتصدير لابد من أن يوضح رقم تصريح الإستثمار الذي تم الإستيراد بموجبه  والتصنيع منه.
وطالما يتوافق هذا النص مع نص القاعدة (14) من الفصل الثاني من الملحق (د) من إتفاقية كيوتو, فإنه يتعين على الجمارك أن تسعى من خلال الرقابة التي خولتها إياها ذات الإتفاقية في القاعدة الرابعة من ذات الفصل والملحق والتي تقضي: 
" للجمارك الحق في إجراء أية عمليات تفتيش للبضاعة الموجودة في المنطقة الحرة وقتما تشاء " إلى سد هذا الباب الذي لم يصبح خفيا لجحيم التهريب واستنزاف خزانة الدولة التي أوشكت أن تتعرض للإنهيار فى الوقت الراهن. وأن لهيئة الإستثمار أن تراقب هي الأخرى حجم المخزون الهائل من الأقمشة والذي لا يخرج في صورة صادرات من الملابس أو حتى الأقمشة إلى الخارج. 
ويمكن لمصلحة الجمارك أن تعرف حجم الرصيد من خلال إدارات الأرصدة لديها، وكذلك من خلال التقارير الشهرية التى ترد اليها من المناطق الحرة الخاصة العاملة في مجال الملابس بقيمة وارداتها وصادراتها من تلك الأصناف. حتى لا يتحمل الميزان التجاري لمصرنا الغالية أفدح الخسائر.

 ثالثا :- المناطق الحرة والسماح المؤقت.

أحيانا يختلط الحديث عن السماح المؤقت بالحديث عن عمليات تهريب تتم للسلع الواردة تحت هذا النظام وأغلبها يتعلق بالأقمشة، وتطرق هذا الحديث إلى المناطق الحرة باعتبارها أحد أيسر سبل مساعدة المستوردين على التخلص من أرصدة السماح المؤقت.
وقد قضت المادة 98 من قانون الجمارك بأنه "يرد التأمين أو الضمان المشار إليه فورا بنسبة ماتم نقله من المصنوعات والأصناف بمعرفة المستوردين أو عن طريق الغير إلى منطقة حرة أو تصديرها الى خارج البلاد........الخ النص " والأمر الذي يستحق التأمل أنه إذا كانت المناطق الحرة على هذه الحالة التي ذكرناها آنفا، من تكدس للبضائع لسنوات مضت لا يقابله تصدير حقيقي. فكيف لهذه المناطق أن تتلقى المزيد من البضائع، ويرد الضمان أو التأمين فورا بمجرد دخول البضائع إليها دون أن تتحقق الرقابة الجمركة المنشودة.
والسؤال هو هل يمكن أن نقصر تصدير بضائع السماح المؤقت إلى الخارج فقط، أو بقائها لدى المستورد مع دفع الرسوم وغرامات التأخير الشهرية المقررة بالقانون  ؟ 

رابعا :- نص المادة رقم 63 من اللائحة التنفيذية لقانون الإستثمار.

يقضي هذا النص "في جميع الأحوال التي ترد فيها الرسائل من الخارج، ويفرج عنها من الجمارك برسم المناطق الحرة، يتم معاينتها بلجنة ثلاثية من المنطقـــة والجمارك وصاحب الشأن أو من ينيبه داخل مقر المشروع، ويحرر بيان بتوقيعهم ......الخ، وتسلم الرسالة لصاحب الشأن وتصبح فى عهدته وتحت مسؤليته الكاملة".
إلا أن التطبيق العملي لهذا النص أسفر عن عدم وجود ما يسمى بكارتات الصنف داخل مخازن المنطقة، وأن تخزين الأصناف داخل المخازن لا يتم وفق رقم إقرار الوارد لهذا الصنف، أو رقم طلب الإرسال، حتى تسهل عملية جرده في أي وقت. وإنما أصبحت جميع الأصناف متداخلة مع بعضها بحجة أنها جميعا في عهدة صاحب الشأن. وهو ما يتعارض مع أبسط أدوات الرقابة على البضائع غير الخالصة الرسوم الجمركية. وللأسف الشديد في حال إفلاس هذه الشركات تخلى هيئة الإستثمار مسؤليتها عنها، ويصبح على الجمارك التصرف في المديونية المتراكمة عليها طبقا للقانون.

خامسا :- إحكام الرقابة على نقل رسائل الترانزيت من الموانئ إلى المناطق الحرة.

تكررت في الآونة الأخيرة وقائع خروج رسائل ترانزيت برسم المنطقة الحرة من الموانئ وعدم وصولها إلى وجهنها النهائية. وحتى نواجه الموضوع بمصداقية وشفافية يتعين ألا نلقى بالإتهام على مندوب التوصيل بمفرده، بل يتعين مراجعة منظومة النقل بالكامل. وجدير بالذكر أن نص المادة رقم 61 من اللائحة التنفيذية لقانون الإستثمار فقرة 4 يقضي: 
" تسلم البضائع لصاحب الشأن - مع طلب الإرسال الجمركى صورة إقرار الواردات مؤشرا عليها من الجمرك المختص بما يفيد تمام إجراءات الترانزيت على البضائع المرسلة الى المنطقة الحرة - لنقلها الى إدارة المنطقة لإتمام معاينتها وتحرير بيانات المعاينة من أصل وصورتين فى حضور صاحب الشأن " 
وهو ما يجعل من صلاحيات صاحب الشأن إستلام الرسالة ومعها طلب الإرسال، بل إنه يعد وفق المادة من اللائحة التنفيذية لقانون الجمارك مسئولا عن سلامة وصول هذه البضائع إلى وجهتها النهائية. 
كما وأنه يتحمل فيما بعد مسؤلية هذه البضائع بوصفها فى عهدته وتحت مسؤليته , وهو ما يتعين معه على الجمارك الإكتفاء بوضع الضوابط المناسبة لإحكام الرقابة منذ لحظة قيام هيئة الإستثمار بتسليم صاحب الشأن تصريح الإستثمار أو مايطلق عليه إقرار الوارد، عن طريق قيام الهيئة بإخطار جمرك المناطق الحرة فى ذات اليوم بصورة ضوئية من الإقرار وإسم الشركة، حتى يمكن تتبع وصول هذه الرسالة من لحظة التقدم للإفراج عنها في ميناء الوصول وإلى أن تصل إلى المنطقة الحرة. للقضاء على محاولات التهريب.

وأخيرا 

فإنه وإن كانت أحكام قانون الإستثمار رقم 8 لسنة 1997 هي الواجبة التطبيق عملا بنص المادة الثامنة من القانون المدني المصري التي تقضي: "لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحة على هذا الإلغاء، أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم، أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع. "  .... 
وهو ما حدا بالمشرع الجمركي أن ينص في المادة 139 من اللائحة التنفيذية لقانون الجمارك على أن "تسرى على المناطق الحرة وعلى الإجراءات التى تتبع بالنسبة إلى البضائع الخاصة بها أحكام قانون ضمانات وحوافز الإستثمار الصادر بالقانون رقم 8 لسنة 1997 , ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1247 لسنة 2004 "
فما العمل وقد تجاهل هذا القانون الأخير سلطات الجمارك المنصوص عليها في إتفاقية كيوتو التي أضحت بعد انضمام مصر إليها واجبة التطبيق ، ومقدمة على كافة التشريعات الوطنية فيما انطوت عليه من أحكام.
وفى النهاية نحن لسنا فى عداء مع المناطق الحرة فى حد ذاتها ولا مع هيئة الإستثمار، فلها كل التقدير والإحترام، لكننا سنظل فى عداء وحرب دائمين مع الفساد، حتى لو تحصن هذا الفساد بالقانون نفسه.
ويبقى أن نقول أن المناطق الحرة فى حد ذاتها مفهوم اقتصادى عظيم، والهدف من إنشائها هو دفع وتنشيط عجلة الصادرات بما تتمتع به من مزايا وإعفاءات ضريبية وجمركية مكفولة بالقانون، ويمكنها أن تضيف للإقتصاد الوطنى الكثير، وإني على يقين من أن الجمارك بها من العقول والكفاءات التى بإمكانها طرح وجهات النظر وما تتطلبه النصوص من التعديلات بغية الحفاظ على أموال الدولة  ووقف نزيف الخزانة العامة التى نحن أحد حراسها.. . وستظل مصر باذن الله محروسة من كل المتربصين بها فى الداخل والخارج. 
ولتحيا مصر.

محتويات العدد 465

إرسال تعليق

يسعدنا قبول تعليقاتك

أحدث أقدم

نموذج الاتصال